تعرضت للاعتداء الجنسي من جدّي في السنوات الست الأولى من حياتي. أتذكر حالة اغتصاب واحدة وقعت لي عندما كنت في عمر الرابعة ونقلت على إثرها للتنويم في مستشفى نتيجة حدوث تحطم في رئتيّ. أخذتني أمي بعد خروجي من المستشفى لتعتني بي بعد أن تركتْني طوال تلك السنوات عند جدي وجدتي، بسبب فقدانها للقدرة على العناية بي. أخبرتها بعد مدة قصيرة من خروجي أن جدّي "قد آذاني في ذلك الموضع". أرسلتني أمي للعيش معهما مجدّداً، وقد مات جدي قبل أن أبلغ سنّ السابعة بثلاثة أشهر.
لقد كنت أعرف كل هذا، لكني لم أتذكر حدوثه.
لقد وقع خطأ في تشخيص حالتي بوصفي أعاني من اضطراب ثنائي القطب و قلقٍ عام. لم يستقر مزاجي أبداً، فهو متأرجح دائماً. كانت تأتيني نوبات هلعٍ يومية. كنت خائفةً من كل شيء. كانت سنوات مراهقتي واقعة تحت تأثير يأسي المندفع نحو سلطة أي مادة مخدّرة يمكن أن تقع في يدي، سَمّ أي نوع وسأكون قد جرّبته. استولت الكوابيس على نومي. كنت أستطيع النوم فقط عندما أكون مثقلة بتأثير الأدوية أو الكحول أو مادة مخدرة ما. رغم ممارستي المفرطة للجنس مع رجال ونساء رغبة في إبقائهم حولي، لكنني لم أستمتع به أبداً. حاولت الانتحار بقطع عروق يديّ في سن الحادية عشرة، و منذ ذلك الوقت قمت بأربع محاولات انتحار أخرى.
بالرغم من وقوع كل هذا لي، لم أدرك أنني كنت مجنونة إلا عندما أصبحت أمّاً لابنتي لأول مرة في عام 2006. كنت أبكي وأنا أطعمها. أصبت بهوس حمايتها، و اقتنعت أن أمراً كارثياً سيقع وأنني سأفقدها. تزامن هذا الشعور مع زيادة محاولاتي لتقطيع عروقي مجدداً. عندما كانت تنام، عندما كنت أضعها في مهدها، كنت أنكمش على نفسي على أرضية حمّامي وأتعرّق، متمنية أن أموت، معتذرة للطفلة المسالمة ذات الوجنتين الورديتين في الغرفة المجاورة بعبارة أكررها قائلةً: أنا لست أهلاً. لقد كنت أزحف زحفاً.
بالرغم من أن مقدار حبي لابنتي أكثر عندي من أي شي في العالم، إلاّ أنني مستمرة في الانغماس في القلق والكوابيس والرغبة الملحّة في الانتحار. عندما صارت في سن الرابعة، كنت في حالة غضب عارم. غضبٌ عجزتُ عن تفسيره، كان قادماً من مجهول، تاركاً وجهي محتقنا بحمرته ولساني نافثاً للسم. لقد كان الأمر مُفسداً لعائلتي الصغيرة. خلال فترة حملي بابنتي الثانية، تفاقم الأمر أكثر. لقد بدأت أتلفّظ بهلاوس خلال نوبات غضبي. زارتني كوابيس كنت أتعرض فيها للمس من كائنات فضائية وأخرى ذات ظلال. أصبحت في حالة ذعر كليّ. هناك من يحاول أن يلحق الأذى بنا.
بعد ولادتها، تم وضعي تحت تأثير أدوية لم أتلقاها من قبل في حياتي. كنت قد أمضيت 13 عاماً في التعامل مع الأدوية حينها. بدأت أتردد على معالجة نفسية، تم توجيهي لها بالمصادفة، لأن معالجتي السابقة قد تم تسريحها. لم أؤمن بجدوى العلاج النفسي، لقد شعرت خلاله أنني مطالبة بالحديث لقاء مال أدفعه. ظننت حينها أن هذه حقيقته، ولكن هذه المعالجة كانت مختلفة.
سألتني" هل سبق لك التعرض لاعتداء جنسي في طفولتك؟" فقلت لها " كلا بالتأكيد". فتركَتْ الأمر.
أصبحتُ أكثر بعداً وانفصالاً عن الواقع. وقعت في خلافات مع زوجي. لم أستطع أن ألمس ابنتي الكبرى. حاولت أن أتلطف بها وأحتضنها وأقبّلها مثلما كنت أفعل قبل ولادة ابنتي الثانية، لكنني لم أستطع. كنت أنكمش في اللحظة التي تلمسني بها، كان قلبي يخفق بشدة والفزع يتملكني. شعرت بالقذارة. كنت أبعدها عني فأشعر بارتياح مباشر، ثم أراها وهي خائبة الرجاء ومجروحة الشعور، فأختبئ في الحمام وأبكي.
انتهى بها الحال للإصابة بالتهاب في جهازها البولي، بعد حدوث احتباس بولي لها، وقد ذهبنا بها للطبيب، حيث قام الفريق الطبي بالسؤال عما إذا كانت قد تعرضت للاعتداء الجنسي، حيث قالوا في شرح هذا " يتطور التهاب في الجهاز البولي عند الأطفال الذين يتعرضون لاعتداء جنسي". وضعوها على طاولة الفحص وفرقوا بين قدميها وفحصوها، فأصابني هذا الأمر بالغثيان. لا، لم تتعرض لاعتداء جنسي، لقد عانت فقط من احتباس في البول. تلقَّت علاجاً ومضادات حيوية ومضينا في طريقنا راجعين، لكنني تغيرت حينها. أصبحت مهووسة بفكرة أن هناك من يحتمل أن يقوم بالاعتداء الجنسي على بناتي. لم أثق بأحد أبداً. أصابني التفكير في هذا الأمر بالمرض إلى حد عنيف.
في عام 2012، قمت بعملية لاستئصال الرحم في عمر الخامسة والعشرين. كانت هناك آثار على عنق الرحم، و سألني طبيبي" هل سبق لك أن تعرضت لاعتداء جنسي؟" لماذا يصر الأخرون على سؤالي هذا السؤال؟
قمت ببحث باستخدام الإنترنت. لقد عشت صراعاً لكي أتمسك ببناتي. لم أستطع النوم. تعرضت للتنويم في المستشفى نتيجة وجود أفكار انتحارية لديّ. أخبرتني معالجتي النفسية أن لدي اضطراب ما بعد الصدمة، لكنها لم تخبرني السبب.
قررتُ أخيراً أن أسأل أمي، أخبرتها أنني سُئلت لمرتين من أخصائيين عما إذا كنت قد تعرضت لاعتداء جنسي في طفولتي، فقالت: لا، إلا إذا...
هنا تحوّل عالمي إلى أشلاء، لقد فعل جدي بها من قبل، ما فعله بي.
ليس هذا فحسب، بل إن زوج جدتي السابق لجدي قد اعتدى جنسياً على أمي، وعلى عمتي، وعلى ابن/ابنة عمي. لقد تزوجتْ جدتي من اثنين من الغلمانيين. لقد تم الاعتداء على كل أطفال جدتي خلال غيابها للعمل أو نومها. وتعرّض أطفال أطفالها للاعتداء أيضاً. وبعض أحفاد أطفالها أيضاً. خلال مدة ثلاث سنوات، انكشف لي كل هذه الأمور، و بدأت ببطء أتذكّر. كانت تجربة غضب أمي مني ماثلة أمام عيني. كانت متطابقة مع تجربتي مع ابنتي.
تحولتْ كوابيسي إلى ذكريات خاطفة. عندما كانت بنتاي يلمسنني، كانت معدتي تتمغّص. كنت أقول لهن أنني أحبهن، لكنني لم أكن أقوى على إظهار ذلك. الحب لا يقدِّم لك إلا الأذى، الحب لا يعني إلا أن تتحول إلى أداة في يد شخص آخر، أن تكون أداة تنفيس لهم. كنت غاضبة من أنني لا أستطيع أن أتناقش مع ابنتي الكبرى دون أن ينتهي الأمر بها وهي تصرخ. لقد ذكّرتْني بنفسي عندما كنت طفلة، حيث كنت كما كان جدي يصفني دائماً: فتاة قذرة. لم أكن جديرة بالحب، لأن أمي قد تخلّت عني. لقد كنت مستحقة للعقاب، لأنني سمحت لعجوز أن يلمس جسدي مقابل حصولي على حلوى ودُمى. لم تتصف ابنتي بأي من هذا، ولذلك لم تكن تستحق العقاب (ولا حتى أنا استحققت العقاب) ولكنني عندما كنت أنظر إليها أو أشهد على مرحها ودموعها، كنت أتعرف على جوانب كثيرة من نفسي لم أعرفها من قبل.
لقد ترددت على معالجتي كل أسبوع. انضممت إلى برنامج تنويم جزئي وتعلمت كيفية التعرف على مواطن الاستفزاز عندي، وكيفية تهدئة نفسي عندما تثور مخاوفي. بدأ الضباب الذي كوّنَته تجارب الانفصال عن الواقع يتلاشى. ساعدني زوجي في التعامل مع خواطر الماضي، فقد استمع لي وأنا أقص عليه خاطرة تتلو الأخرى. لقد تعاملت مع أموري، ليس فقط اثناء جلسات العلاج، ولكن من خلال مدونتي في المنزل أيضاً. لقد استخدمت تقنية "العلاج بالتعرّض Exposure Therapy" للتعامل مع الأشياء المعلّقة بيني وبين بناتي وجعلتهن يلمسنني ويصعدن فوق ظهري. لقد صبرت على مشاعري المؤذية عندما تظهر، لاكتشاف أسباب شعوري بها، ثم إقامة حوار ذاتي يستمر حتى أُقنع نفسي أن استجابتي نحوها كانت سخيفة. كان عليّ النظر لصورٍ لي وأنا طفلة، و مشاهدة أشرطة فيديو قديمة لنفسي وأنا ألعب مع جدّي. كان عليّ أن أنتبه أنني كنت مجرد طفلة، فتاة صغيرة، مثل بناتي. كان علي أن أتعلّم كيفية حب طفلتي الداخلية، بالطريقة التي كنت أرى بها استحقاق بناتي للحب. لقد تبيّن لي مع الوقت أنني لم أكن طفلة قذرة. كنت جديرةً بالحب. لم أكن مستحقة للعقاب. كنت مجرد طفلة، كانت محتاجة للنجاة وكانت محاطة يا للأسف ببالغين مدمَّرين وسامّين لم تكن لديهم القدرة للمحافظة على سلامتي، وحبّي على النحو الذي كنت مستحقة للحصول عليه.
لقد كنت أول فرد من أفراد عائلتي يتلقّى علاجاً من الاعتداءات التي مررنا بها جميعاً. لقد قطعت علاقاتي الاجتماعية مع أعضاء أسرتي الأكثر سميّة. بدأت أتعافي ببطء ولكن بثبات. لقد تم إعفائي من تناول جميع أدويتي السابقة باستثناء دواء "أتيفان-Ativan” المهدئ للقلق. لدي وصفة بثلاثين حبة دواء، لتغطية شهر، لكنها عادة ما تبقى معي لمدة ثلاثة أشهر. أصبح الغضب العارم مجرد ذكرى. يمكنني عناق بناتي وتقبيلهنّ، والنوم إلى جوارهنّ على سرير بينما أقرأ لهن قصة قبل النوم، دون أن أصاب بالذعر. بعض الأيام أصعب من غيرها، لكنني قطعت شوطاً طويلاً. أنا أحسن إدارة أموري. ستكون الأمور على ما يرام.
التعافي عبارة عن عملية، وليست بالأمر السهل. هناك قمم وهناك قيعان، أيامٌ أشعر بها أنني خطوت أربع خطوات للخلف بعد أن قضيت أشهراً لكي أخطو خطوة صغيرة للأمام، لكن الأمر يستحق الاستمرار. يمكنني أن أرى أنه برغم إخفاقاتي، فلازلت أسير قُدماً. عمري الآن تسع وعشرون عاماً، أعيش مع فتاتين رائعتين، و أخيراً أشعر حقاً بأن حياتنا تبدأ معاً. أنا أقوى، وأغزر معرفة، وأكثر تودداً لنفسي، ولبناتي، لأنني كسرت الحلقة.