إنها الثانية عشر وخمس وأربعون دقيقة صباحاً. المنزل هادئ. الجميع نائمون، مثلما ينبغي عليّ أن أفعل. الذعر والخوف و القلق يتسابقون بين أوردة دمي بصخب يمنعني عن النوم. هناك فتاة صغيرة نائمة في غرفتها تعتمد عليّ للحفاظ على سلامتها. عندما كنت طفلة، لم أتمكن من حماية نفسي من الوحش الذي جاء إلى غرفتي ليلاً وآذاني. لهذا، فإنني أقوم بكل ما أستطيعه لحماية ابنتي. يوماً ما ستتجول ابنتي بين خبايا هذا العالم وحدها. ستكون مسؤولةً عن حماية نفسها بنفسها. هذا هو أكبر مصادر الرعب المتعلقة بالتربية عند الذين اختبروا معاناة الاعتداءات عليهم عندما كانوا أطفالاً، حقيقة أنني لا أستطيع حمايتها للأبد يجعلني مستيقظة ليلا.
عمرها 9 سنوات. إنني أعيش صراعاً في سبيل حمايتها الآن، وإدراكي أن ذلك اليوم سيأتي وتغادر فيه بعيداً عني يزلزني أحياناً. هناك شعور عميق بالخوف بأنني لن أكون أهلاً للمسؤولية، أهلاً للعطاء، أهلاً للإنجاز أو أهلاً لحمايتها بما يكفي. إنني قلقة بخصوص أن تتحول ابنتي التي تعيش بسعادة إلى فتاة معطوبة منكسرة في حال تخليت عن حمايتها لثانية واحدة. لذا، فأنا ملتزمة بتأمين موقعي.
هناك لحظات تخشى فيها ابنتي من ردود أفعالي على أشياء تافهة، كأن تسكب الطلاء على سجادة. إنها تخشى أن أغضب منها، فتبقى هادئة. عندما كنت في سنّها، كنت هادئة أنا الأخرى. في لحظة شجاعة نادرة لي عندما كنت في الصف الخامس، تحدثتُ للمرشدة الاجتماعية في المدرسة عما يجري في البيت. أجرت المرشدة مكالمة مع المربي في بيتنا مما جعله/جعلها ينزل العقاب بي ضرباً بعد عودتي. أخذت نذراً على نفسي حينها وفي ذلك المكان بألاّ أتحدث مع أحد بكلمة مرّة أخرى. لقد أثبتتْ هذه الحادثة أنه لا يوجد أحد ليصدقني أو يحميني أو يستمع إليّ. صار الصمت أفضل أصدقائي.
إن علمي بأن ابنتي في بعض الأحيان تبقى ساكنة خوفاً من ردة فعلي يشقّ كالسكين داخل صدري. إنني أتحول حينها فوراً لتلك الفتاة الصغيرة ذات الأسرار المكتومة مرةً أخرى. أتذكر تلك المرّة الوحيدة التي بُحت بها ونتائجها الوخيمة، فيتحطم قلبي. تمتلئ عيناي بالدموع. إنني أنتحب لأجل تلك الفتاة التي في داخلي، التي أرادت لأحد أن يهتم بها فتعرّضت للأذى بدل ذلك. إن خوف ابنتي أقل شدة من خوفي، ولكنه يستفزّني. لا أريد منها أبداً أن تخشى اللجوء إليّ مهما كان السبب. إنني أبالغ في جهودي أملاً ألاّ تشعر مطلقاً بهذا الخوف تجاهي.
إنني أوجهها ألا تسمح لأحد بمسّ جسدها. إنني أعيد عليها مراراً وتكراراً أنه لو قام أحد البالغين بالطلب منها أن تحتفظ بسرّ بينهما، أن تأتي وتخبرني. يمكنها أن تشاركني أسرارها وسأصدقها، و أدعمها لتحسن إدارة الوضع. إنني أخبرها أنه ليست لها يد فيما يحدث من خطأ، وأنني لن ألومها، مهما قال لها ذلك الشخص.
عندما ندخل إحدى المحلات، أعطيها خطبة "السلامة" وأذكّرها بأهمية أن تبقى بجواري طوال الوقت. أعلّمها أن ترد بقوة على من يحاول اختطافها أو أذيتها. عندما يحيّيها الغرباء قائلين "مرحباً" ويقتربون منها، أتخذ وضعية حماية أنثى الدب حولها. تشير طاقتي التي أطلقها في هذا الموقف للشخص الآخر أن يبتعد. كل شخص بمثابة خطرٍ كامن في قانوني. كل شخص لديه إمكانية الاستحواذ وإلحاق الأذى بابنتي.
عندما أتحدّث مع ابنتي بخصوص سلامة جسدها، تنظر إليّ وكأنني مجنونة. لا بأس لدي في هذا. إنها تجهل إلى أي حدٍ يمكن لهذا العالم أن يكون دنيئاً. إنها لا تعي السرعة التي يستطيع من خلالها شخص ما محاولة جعلها تعتبر سلوكيات منحرفة قام بها تجاهها سراً من الأسرار. إنها لا تعلم أن أكبر التهديدات يمكن أن تقع من أفراد العائلة أو الأصدقاء- أولئك الذين نسنح لهم بدخول حياتنا دون مساءلة. إنها لا تعلم لأنني لم أخبرها بقصتي. إنها لا تعلم حتى الآن عن الوحش الذي كان فوق الشبهات وكان يعيش في بيتي. لذا، فأنا ملتزمة بتأمين موقعي.
لقد استنفذ الغضب الخارج عن الحدود من والدي سنوات طفولتي. هناك لحظات أشعر بها أنني أخسر السيطرة على وضع يتعلق بأطفالي. يتسرّب الغضب خلالي و أصارع في وضعه تحت تحكمي. رأسي يمتلئ بالكلمات الجارحة وقبيل أن أتفوه بشيء فظيع، ألمح لقطة من وجه ابنتي. إنها توقف جماحي. إن وجهها الجميل يذكّرني بأن الغضب لن يكون الحل. في جزء من الثانية، تمتلئ معدتي بالعُقد ويصبح جسدي متوتراً. أنا مجدداً تلك الفتاة التي تعلم جيداً معنى قوة الأيدي التي تترك ندبات على الجسد، وذلك اللسان القادر على تمزيقي لأشلاء.
أنا بحاجة إلى كسر حلقة الإساءة هذه بالتوقف مباشرة واحتضان ابنتي والاعتذار لها، عندما تجتاحني نوبة الغضب. في بعض الأحيان كانت نوبات غضبي لا تستحق المغفرة. مع ذلك أنا أعتذر وأسال المغفرة في كل مرة. أقول إنني أعتذر لرفع صوتي وفقداني للسيطرة. أتأكد من أنها تعلم أن ما جرى ليس خطئها. لقد نشأت على الشعور بالمسؤولية تجاه انفجارات غضب والديّ عليّ. لقد تعرضت للإهانة والشعور بالعار لأنني "جعلتهما" يغضبان. أود أن أعفي ابنتي من هذا الشعور أكثر من أي شيء آخر. أنا أعتذر دائماً وأبداً.
لم أعرف خلال نشأتي أي شيء عن الحميمية الإيجابية. كانت الكلمات تُستخدم لتحطيمي و تعزيز مشاعر احتقار الذات والوحدة والغضب و الحزن والعار والذنب عندي. لم أكن أحظى بتقدير ذاتي. لقد شعرت بأنني حدث غير ملائم ابتليت عائلتي به. شعرت بأنني شخص غير مرغوب به. يمكنني أن أتذكر بصورة باهتة هذه المشاعر في كل مرة تشعر بها ابنتي بأنها ليست جيدةً بما يكفي في القيام بأمر ما. يؤلمني عندما تفقد ابنتي إيمانها بذاتها أو تقلل من شأن نفسها. عندما تتورط في أمر ما، أذكرها كم هي ذكية ومستقلة ومحبوبة ومميزة. أوكد لها حتى عندما تفشل أنني لازلت أحبها وأنني مؤمنة بها دائماً. من المهم أن تساهم الكلمات في بناء شخصيتها بصورة إيجابية، بناءاً على الكلمات التي سمعتها في طفولتي.
إن أسوأ كوابيسي ظل يدور في ذهني كشريط مكرّر مفسداً كل يوم من أيام طفولتي حتى وصلت لعمر تمكنتُ فيه من الدفاع عن نفسي وبناء حياة جديدة لي. إنني أعلم أن حلقة الإساءة يجب أن تتوقف عندي. لذا، فأنا ملتزمة بتأمين موقعي.
إنني أقوم بدوري التربوي بعد أن احتلت إساءات الطفولة والخوف والقلق مكاناً موازياً مع حقي للحصول حب غير مشروط. إنني أعرف أنني لن أشفى كلياً من الأهوال التي تلبّستني كطفلة. مع هذا، فإن كوني مربية يسهّل تعاملي مع الذكريات المعطوبة من طفولتي. إن هذه التجربة تمحو تدريجياً ألمي. في كل مرة ألعب مع ابنتي بدمية، أو نتشارك تلوين صورة، أو نبقى في كسل واسترخاء على أريكتنا، تستقبل الفتاة المكسورة داخلي شيئاً من الحب.
يمكنني أن أشعر بالراحة لأنني أعلم أنني أبقي على ابنتي آمنة. إنها تنام دون أن يقتحم أحلامها وحش. إنها لا تستشعر السير على قشر بيض أو تشعر بالقلق أن كلمة واحدة أو سلوكاً واحداً خاطئاً من شأنه أن يثير عاصفة من الغضب الأبوي. لن أتمكن من السيطرة على الطريقة التي سيتعامل معها العالم بها عندما تخرج لملاقاته وحدها. سوف تختبر الألم وانكسار القلب. سوف تتورط وتقع، خلال سعيها لإيجاد طريقها الخاص في هذه الحياة. هناك أشياء لا أستطيع ان أغيرها أو أمنع حدوثها. كل ما أستطيع أن أفعله ان أحبها، أن أحميها بأفضل طريقة أقدر عليها.
لذا، فأنا ملتزمة بحماية موقعي.