Return to site

الاذن بالحب

بقلم داون دوم

Twitter: @TDawn81

خلال نشأتي، عرفت ثلاثة أمور على نحو مؤكد. عرفت أن الاعتداءات الجنسية التي عانيت منها من نموذج الأب في حياتي كانت أمراً خاطئاً، مع أن خوفي من هذا السر قد لازمني لثمان سنوات. عرفت أن ذهابي للدراسة الجامعية كان تذكرة هروبي من عائلة مفككة، بالرغم من استمرار أفرادها في تكرار حلقات الفشل. وعرفت أنني سأكون أُماً في يوم ما، لأربي أطفالاً في بيئة مفعمة بالحب، بالرغم من انني لم أكن أملك أي تصوّر عن كيفية هذا الوضع.

كفتاةٍ مراهقة، كنت قادرةً على الهروب من الاعتداءات. لقد أزحت عن طريقي عوائق وراثية وأبعدت نفسي عن أجواء الثقافة المعطوبة التي نشأت بها. لقد تسلّقت جبلاً شاهقاً في سن الثانية والعشرين لأصل به لتحقيق شهادة الدبلوم. في سن الخامسة والعشرين، تزوجت من رجلٍ له قلب نقي يجعلني في كثير من الأحيان أشعر بعدم استحقاقي لحبّه.

إن إنجازاتي قد عبرت من خلال فترات من التعافي الذاتي والتصميم الخالص والسلوكيات المدمرة والاعتقاد الراسخ بأنني سأحيا حياة "طبيعية". في عمر الثامنة والعشرين، حصلنا على طفلنا الأول. شعرت بالفخر والإنجاز والسعادة. اقتنعت، نتيجة مساهمتي في توجيه دفة حياتي حتى ذلك الوقت، أنني قادرة على مواجهة أي شيء تُلقي به الحياة في طريقي. لم تكن لدي أي فكرة أن تحولي إلى أمّ سيستدعي بواطن استفزاز ستقضي عليّ في النهاية.

حتى أصبحت أماً، كنت قادرة على صدّ خواطر خبراتي الماضية طوال فترة حياتي الراشدة. عندما بدأت التربية، لم أعد قادرةً على فعل هذا. لم أعد قادرة على صدّ الاستفزازات، لأن أبنائي أصبحوا هم مصدرها. بدأت أعيش حالة من الاستنفار والخمول والذعر من جديد. فجأةً قفدت القدرة على التحكم في ردة فعل جسدي تجاه الأشخاص الذين أحبهم أكثر من أي أحد آخر في هذا العالم. لم أتمكن من فهم السبب وراء سعيي الحثيث للهروب من أطفالي بدل الإقبال عليهم.

قبل مرحلة الأمومة، قضيت فترة في تلقي علاج نفسي وبدأت مساراً مهنياً في ميدان الرعاية النفسية. لقد عرفت استراتيجيةً للتعامل مع اضطراب ما بعد الصدمة تقضي بأن يقوم الشخص بإعادة تركيز انتباهه على نفسه خلال نوبات التوتر والفزع واستعادة الخواطر وذلك من خلال تغيير البيئة المحيطة أو القيام بالاستماع لموسيقى مريحة أو الكتابة أو التمشي على الأقدام. هذه الخيارات لم تكن عملية كأم. لا يتمكن المرء من إعفاء نفسه من أمومته بشكل مفاجئ.

عندما بلغَت ابنتي الثالثة وكان ابني قد وُلد، تركت عملي للعناية بهما. امتلأت أيامي بمصادر الاستفزاز: بدءاً من تغيير الحفاضات، ونوبات المناكفات، وضبط السلوكيات، تلك الأمور التي تمثل مفردات أساسية في عملي الجديد كأم بدوام كامل. لقد شعرت أنني واقعة في فخ، ووحيدة، ومجنونة، ومَخزيّة، ومهزومة ومحطّمة.

لم أتجرأ على إبلاغ حتى أصدق صديقاتي أنني وجدت صعوبة بالغة في إبلاغ ابنتي أنني أحبها وأن أقبلها قبل نومها، لأن هذا السلوك استفز ذكرى أليمة لدي لمن اعتدى علي حيث قام بنفس هذا الفعل في كل مرة اعتدى فيها عليّ. لم أستطع الاعتراف للطبيب المتابع لحالة ولادتي ولا لأخصائي الرضاعة أنني قضيت جلسات الإرضاع لابني في توتر بالغ، لأن هذا السلوك استفز ذكرى لي مع من اعتدى عليّ وهو يحكم قبضته على صدري. لم أتجرأ على إخبار طبيب الأطفال الذي أراجعه أن السبب الحقيقي لجعل ابنتي تستحم واقفةً بدل استخدام حوض الاستحمام أن من اعتدى عليّ كان يضعني في حوض الاستحمام عارية ليمتّع نفسه برؤيتي.

بدل ذلك، فقد دفعتُ بأبنائي نحو أحداث الحياة دفعاً، عازمةً على توفير الطرف المقابل تماماً لكل ما عشته في طفولتي. قمت بهذا كل يوم، حتى فقدتُ قدرتي على فعل ذلك. أدت الفوضى التي شوّشَت عقلي للسريان في كامل جسدي. أصبحت محبَطة، وفي نهاية المطاف ميالة للانتحار. كنت خائفة. كنت في غاية الخوف إلى حد أنني لو أطلعتُ زوجي على ما أمرّ به لتركني، ولو علمت الجهات المختصة برعاية الأطفال به لأخذوا أطفالي مني، ولعُدت وحدي أستند إلى جدار الأسى الذي جئت منه.

بدأت البحث عن أمهات أخريات وآباء آخرين عن بعد كانوا يمرون بتجاربهم التربوية مثلي. لا أحد! أصبحت في حالة من الإحباط عندما لم أجد طرحاً يتعلق بالتعامل مع الصدمات والتربية سوى أساليب الوقاية وكيفية التعامل مع طفل تعرض لصدمة. ماذا عن أولئك الأطفال الذين أصبحوا راشدين وهم يحملون آثاراً لإساءات طفولتهم معهم، ويعانون في التربية لأن صدمات الطفولة تعاود الظهور لهم؟ كيف للراشد أن يعمل على كسر حلقة الإساءات التي وصلت له إذا ظلت معاناته غير معترف بها؟

لقد تيقنت من صميم قلبي إنني لا يمكن أن أكون الأم الوحيدة التي تمنّت أن تكون أماً أفضل لأطفالها بسبب ما مررت به من تجارب وآلام في طفولتي. أنا على علم بالإحصائيات التي أكدت على وجود شخص من كل ثلاث أشخاص وآخر من بين كل ستة أشخاص ممن هم مثلي. إنه من المستحيل أن أكون أنا الأم الوحيدة التي تمر بها هذا الحال. ثم ما كان مني إلا أن قمت بالشيء الذي أعرف القيام به، وهو التخلي عن السيطرة التي أقنعت نفسي إنني لا أمتلكها على هذا الموقف. لقد استخدمت مبدأ أن "الحِلم بالتحلّم" لكي أتغلب على الأشياء التي أخافتني في الماضي، ولم أنجح في إزالة الشعور المزري بأن هذه هي الطريقة الوحيدة التي أمامي. لذلك فقد قمت بعمل جلل بدل ذلك. فقد كتبت وتشاركت قصتي على منصة رقمية كان عدد الأشخاص القادرين على الوصول إليها قد وصل إلى 800,000 شخص.

انتهى هذا الجهد إلى نتيجة تأسيس مجتمع نقاط الاستفزاز و مختاراته التي بين أيديكم الآن. كنت أتمنى أن أقول بأن هدفي منذ البداية كان مساعدة الآخرين لكنه لم يكن كذلك. لقد كان الهدف ببساطة أن يساعدني الأمر على النجاة. كنت فاشلة بشكل ذريع وسريع. لقد ساهمَت الاستجابة التي حصلت عليها من هذا الفعل بكل مصداقية في إنقاذي من الوصول إلى القاع، ذلك الحال الذي كان سيؤدي إلى أن ينشأ طفل صغير وطفلة صغيرة بلا أم.

إن مجرّد علمي بأن هناك آباء وأمهات في هذا العالم يقومون بدورهم من خلال مقاومتهم للاستفزازات التي تعيد إنتاج صدماتهم وتجعلهم يتساءلون عن جدوى الدور الذي يلعبونه في حياة أبنائهم وبناتهم غيرت كل شيء بالنسبة لي. بناء على ما أعرفه الآن كأم تواصلَت مع أمهات أخريات وآباء آخرين لديهم تاريخ للصدمات، فإن التشكيك في الذات هو أكبر تحدّ من بين تحديات أخرى يواجهها الآباء والأمهات الناجون. إن مصداقية هذا وتحرير التوتر الذي اختبرته من خلال تواصلي مع الآباء والأمهات الناجين ومعرفتي أنني لست وحدي في هذا منحني وضوحاً وأعطاني إذناً أن أحب بشمولية لم أمتلكها من قبل. لقد تحديت وصمتي لنفسي بأنني معطوبة وأمّ بلا قيمة.

عندما أقوم بالعناية بأطفالي من خلال تصرفات طبيعية معبرة عن الحب المنضبط والرعاية وتلبية احتياجاتهم الأساسية، ويقوم جسدي بالمقابل بالاستجابة عن طريق إظهار الخوف والقلق، فإنني أتبيّن الآن أن هناك تناقضاً قد وقع خلال حدوث هذه التصرّفات. إنني أفهم الآن جذور هذا الأمر، فقد تعرّضَت حدودي للتجاوز كطفلة. أستطيع ان أسجّل ملاحظة ذهنية لهذا الفهم لأقيّم نفسي من خلالها لاحقاً، بدل أن أستنتج مباشرة أنني لست أهلاً للتربية.

إنني أستوعب بشكل أفضل الأنماط السلوكية التي أستمِر بأدائها بسبب الأمور التي أتعلمها من هذا المجتمع التربوي للناجين. أود لبقية الناجين والناجيات المربين أن يستفيدوا هم أيضاً من هذا الفرق الذي يُحدثه هذا التعلم. أرجو للناجين أن يتلقوا العون الذي نحتاج إليه للاستمرار في تحقيق نجاحنا وإعطاء أطفالنا فرصة أفضل من التي حصلنا عليها.

إن السبيل الوحيد لتحقيق هذا النجاح يتم من خلال جعل المعنيين واعين ومتعلمين وأن يبدأ هؤلاء بطرح أسئلة صحيحة في الأوقات الصحيحة. إن الصدمات بحاجة للعلاج، مثلها مثل أي مشكلة من خلال اللجوء لأولئك الأشخاص الذين يمتلكون القدرة على رؤية آثارها الظاهرة على المستوى الجسدي والعاطفي والاجتماعي بوضوح أكثر من غيرهم، ألا وهم الأطباء والأخصائيون الاجتماعيون. إن الناجين والناجيات بحاجة لأن يكونوا واعين بأعراض اضطراب ما بعد الصدمة وأن يتعرفوا على علامات الإنذار الدالة عليه، خاصة مع اقتراب أن يصبحوا آباء وأمهات. على الناجين أن يعلموا أنه إذا بدأت أعراض اضطراب ما بعد الصدمة في الظهور واعتراض طريقهم لتحقيق دورهم التربوي الذي يطمحون للقيام به، فإنه يسمح لهم، وبل من الموصَى به أن يبلّغوا بذلك المسؤولين عن رعايتهم الصحية والنفسية.

ليس لي طاقة في السيطرة على الوقوع في حالة استفزاز، لكنني أستطيع تهيئة نفسي لمواجهة الاستفزاز القادم عندما يقع، بسؤال نفسي حين مرور تلك اللحظات علي. بهذا يمكن لعقلي أن يستجلي الأمر، و لخفقات قلبي أن تهدأ ولرعشة الفزع التي تسري خلال بقية جسدي أن تكون أقلّ حِدّة. لم أعد عديمة الحيلة تجاه هذا الوضع، مثلما كنت كذلك في يوم ما.

بقلم:

داون دوم، زوجة في منتصف الثلاثينات، وأم لطفلين، ناجية وتلميذة في الحياة. تقضي داون وقتها كمديرة في القطاع الصحي النفسي، تساعد آخرين في جمع شتات أنفسهم. تأمل داون أن تنجح يوماً ما في إحياء القصص والشخصيات داخل عقلها الجميل.
h