Return to site

الخوف رفيقي الدائم

Jessica Malionek

بقلم جيسيكا ماليونِك

الخوف هو محفزي. يطلّ برأسه القبيح بطرق لا يمكن تخيلها. تنطوي الأيام العادية على جرعات مكثفة من الخوف. أنا محاصرة. أنا في عزلة تامة. أشعر كأنه لا يوجد من يساعدني وأنا غارقة في لُجّة أكوام من المهام العادية مستحيلة الإنجاز. مهامٌ تتركني ألهث بحثاً عن هواء لأتنفّسه، مكبلةً بالخوف.

انضم لي خوفي في أوقات اللعب عندما كانت ابنتي في الثانية من عمرها، حيث كنت منغمسة في إحساس من الريبة. هل ابنتي ملزمةٌ أن تكون فتاةً "طيبة" ورفيقة "طيبة" وتشارك أقرانها في ألعابها؟ أم أن عليّ أن أبلغها أنّ لديها السلطة في قول "لا! لا أريد أن يتشارك معي أحد!" أثارت أوقات اللعب الخوف داخلي. متى يكون من الآمن أن يقول الطفل "لا" للمشاركة؟ لازلت أجهل الإجابة على هذا السؤال. أبنائي لازالوا يتلجلجون بهذا الشأن. أنا كذلك مثلهم.

قبض الخوف على يديّ بصرامة عندما صارت ابنتي في سن الثامنة. نظرتُ إلى زوجي وتصببت عرقاً، حيث استهلكني الخوف بكُلّيتي. " أنا لا أحسن أن أقوم بدور الأم لفتاةٍ في سن الثامنة. أنا لا أتذكر يوم كنتُ في ذلك السن. لا أعتقد أنني أقدر على القيام بهذا الدور." فأجابني زوجي ونظرة حنان تغلّف كلماته: بلى تستطيعين! تستطيعين. لم تعرفي أنك ستقدرين أن تكوني أماً لسن سنة أو سنتين أو حتى سبع سنوات، لكنّك قمتِ بعملٍ مدهش وستستمرين في ذلك."

لم أكن واثقة بما يكفي من هذا. لسبب ما، بدت سن الثامنة بالغة الصعوبة عليّ. لقد رغبت في تصديقه لكن بدلاً عن ذلك تقوقعت على ذاتي في وضعية جنين على أرضية حمّامي. لقد قلّصت من حجمي بقدر ما استطعت وتصببت عرقاً من الإعياء. غطّيت جسدي بمنشفة وانكفأت داخل خوفي.

عندما كان ابني البالغ تسع سنوات ابن ثلاث، كان يرفض الذهاب لغرفته في وقت مستقطع كتأديب. كنت أتساءل: كيف لي أن أجعل ابني ينصت لي؟ كيف لي أن أجعله يقوم بما أريد منه فعله إن رفض إن يطيعني؟ تساءلت إن كان إرغامي له على الطاعة أن يؤدي إلى إحداث شرخٍ في الثقة و احترام الحدود؟ هل علي أن أقدّر تجربته المعاشة وأن أتقبّل أنه لا يرغب في الاستماع إلىّ؟ ما الموقف الصائب؟ ما الإجابة المنشودة؟ استنزفني الخوف، تاركاً إياي أصارع همّاً مع ابني المتوتّر. لدي طفلان خائفان، بلا أمٍّ في محيطٍ من الخوف والتشوّش.

عندما بلغت ابنتي الحادية عشرة من عمرها، زادت الواجبات الدراسية المنزلية وزاد معها الخوف. "أنا لا أحسن فهم مواضيع الواجبات المدرسية". اختنقت. " ليست لدي المهارات المطلوبة لمساعدتها. أنا لا أعرف كيف نجوت من سنوات دراستي، لم يعلمني أحد كيف أتعلم. لم يساعدني أحد. لقد غمرني الخوف بطريقته المألوفة، تاركاً أمواجه تجتاحني الواحدة تلو الأخرى. لكنني هذه المرّة زرعت قدمي في الأرض. لقد نقشت حاجزاً رقيقاً بيني وبين محيط الخوف الهادر. لأول مرّة في حياتي، بدأت أتحدى الخوف.

كنت في سن الثامنة عندما بدأ الاعتداء الجنسي يقع عليّ. كنت في الحادية عشرة عندما ولد أخي من أمي، وازداد الاعتداء شراسةً مع حمل أمي وولادة أخي الأول. كان أداء الواجب المدرسي المنزلي مستحيلاً. كان البقاء في البيت واجباً صعباً في حدّ ذاته. وجودي في البيت استنفذ كل طاقتي المتاحة. حماني عقلي، ولثلاثةٍ وثلاثين عاماً انفصلت ذهنياً عن الاعتداءات الجنسية التي وقعت علي. ليست لديّ ذكريات متعلقة بها. ما تبقى من تلك الفترة الزمنية، بالمقابل، كان منظومة من الاعتقادات المشوّهة والمحاذير المستنزِفة المتشكّكة لما كان حقيقاً أو زائفاً حينها.

تعلّق الخوف في حبال الزمن التي مضت منذ فترة طفولتي بسبب الاعتداءات الجنسية واستقر في ميدان حياتي الراشدة. ظل الخوف موالياً أبدياً لكبريائي. كان للخوف سلطاناً نافذاً عليّ، فقد سلّمته زمام قيادتي. لم أكن أعلم السبب وراء هلعي الشديد من أن أدمّر أطفالي عاطفياً. كوني قد انفصلت ذهنياً نتيجة الاعتداء الجنسي، تركني مع اعتقاد راسخ بأنني مكروهة ومحتقرَة ومرفوضة من أمّي. لقد سكن شبح الخوف داخلي لأنني لم أنظر لنفسي كناجية من الاعتداء الجنسي في طفولتي. إن أكبر قوة استخدمها الخوف ضدي أن حرمني من الاعتراف وامتلاك تجارب الاعتداء. لقد تمت إزاحتي وأنا على ظهر مركبي الصغير بعيداً دون أن أعلم كيفية العودة إلى الشاطئ. لم أستطيع حتى رؤية ملامح الشاطئ اللعين، فكيف لي أن أصل إليه أصلاً؟

قاتلت لسنوات بضراوة، منهَكة أمام مدّ الخوف المتعاظم. ما بين مظلات كسيرة ومعاطف متهالكة، واقيات أمطار رثّة ومراكب تملؤها الثقوب. ثم بعدها، حدث أمرٌ ما. وصلت ابنتي لسن الحادية عشرة وأنا لازلت بعيدة للغاية عن أفضل نسخة من ذاتي. رأيت نفسي وأنا أتواصل مع عائلتي من خلال الصراخ، والصراخ، والمزيد من الصراخ. كنت أحاول أن أُسكِت صوت الخوف المرافق لي الذي كان يؤكد أنني لست بخير. كنت مستهلكَة وخائرة القوى. أخيراً استسلمت للخوف، ومع استسلامي، تذكرت ما حصل. تركت نفسي أستعيد ذلك الشعور. انهالت حقيقة ما وقع لي من اعتداء فوق رأسي. في صحبة هذا التبصّر، اكتشفت أنه لا حاجة لي للبقاء داخل مركبي الصغير محاولةً أن أنفض عنه ماء المطر، ولا أن أحارب الخوف بالقوة والشراسة. أستطيع أن أبقي خوفي جالساً إلى جواري. مع هذا التغير في وجهة النظر - مع التخلي- انجلت الأمطار، وانقشعت السحب لينكشف شعاع الشمس الذهبي.

إنني أعلم في قرارة نفسي أن الخوف كذب علي عندما أخبرني أنني لست أمّاً جيدة. لا وجود لشيء يمكنني القيام به سيؤدي لترك ندبة دائمة في نفوس أطفالي. أنا أمٌ حقيقية. أنا حاضرة بكليتي. أنا صادقة ومحبة ومكتملة. أنا لست أمي. أنا أؤمن بصدق أن سلوك أمي – من حيث امتناعها عن القيام بشيء- كان عميق التدمير لعلاقتي بذاتي حينها لجعلي أغتصب وأعاني. يمكنني الانفصال عن الألم الجسدي لكن الحقيقة المؤكدة أن أمي لم تحبني بما يكفي لتؤمن لي السلامة – حيث كان إنكارها الكامل وقدرتها على إدارة ظهرها لما جرى لابنتها الوحيدة بالرغم من صرخاتي ودموعي، منكرة الدليل الدامغ- ظل دائماً أعمق جراحي. ذلك الجرح الذي غذى نزيفُه خوفي.

الأمر الأهم بخصوص الخوف هو التالي، لقد منعني من رؤية نفسي بكليتها. لقد سرقني الخوف من قوتي وأخرس صوتي. إن قبولي بالعاصفة الممطرة واختياري أن أقف ثابتة مكنني من الانفصال عن خوفي. لا هرب من الخوف. لا داعي للسعي لأخذ مظلة واقية. لا داعي للتمسك بمنشفة متشرّبةٍ أصلاً بالماء. لا. علي أ ن أتوقف عن الخوف من خوفي. التحرر من الخوف لا يعني إسكاته أو أذيته أو الهرب منه للأبد. التحرر يعني تقبل أنني لن أعيش حياة بلا خوف. سيظل الخوف يجاورني في مسيرة حياتي حتى النهاية.

إن هذه المعرفة والامتنان أنه لا أحد، في الحقيقة، يعيش حياة بلا مخاوف هي الإجابة الشافية. إنها إجابتي. لا يمكنني دفن الخوف تحت التراب. أنا بحاجة للاعتراف بوجوده هنا. إلى جواري. إن جهدي في الحياة أن أتعلم التواجد معه. هذه هي الحقيقة. هذه الحقيقة هي حريتي. كلنا نعاني. كلنا نتألم. كلنا نخاف. هذه إنسانيتنا. هذه الحقيقة جوهر الحياة. ليس هناك فرق بينها وبين الاعتراف بأننا يوما ما سنفارقها. يمكننا أن نقضي عمرنا هاربين من هذه الحقيقة أو أن نمتلكها مع هذا التقبل، أن تعيش حياة أصيلة وحقيقية.

الخوف هو ذلك الطفل الوحيد، الفظ الذي يشيح بوجهه المحمر من أجل أن يُرى. إنه يريد من يطمئنه. يريد من يهدئ من روعه. يريد من يسكنه. يحتاج الخوف لأمّ تجيد تخفيض حرارته. سآخذ يده المحترقة وأبردها بين يدي. سأقف إلى جانب الخوف وأذكّره أنه في حقيقته ليس قاهرا. سأغمس إسفنجتي من مسبح ماء أمومتي لأرطب جبهته المتوقدة. سأذكره مراراً وتكرارا، ألاّ ملكية له عليّ. سأجلس بجواره وأتعلم العيش معه لأن حقيقة الخوف أنه مخيف فقط عندما أؤمن أنه كذلك.